الكرة عبارة عن جلد مدّور يركض خلفه اللاعبون بلا فائدة. لعل هذه أقبح كذبة سمعتها في حياتي. بالنسبة لي وللكثيرين كرة القدم هي مصدر المتعة والينبوع الأساسي للسعادة. كرة القدم أجمل وأعظم مما تتخيلون
يتصور السودانيون أن يأتي يوماً ويبلغ بهم الحال إلى ما وصلوا إليه هذه الأيام، من تغرّب وتشّرد ونزوح وبؤس وضنك. فأكثر المتشائمين لم يكن يتوقع أن تستمر الحرب في أرض النيلين أكثر من شهر كأسوأ الفروض، والشهر يمُر ويصبح شهرين فسنة فسنتين.
الكل تاه وهام على وجه، يبتغي سُبل النجاة أولاً، ثم النجاح بعيداً عن الأرض والوطن، عله يوفي بعضاً من احتياجاته وشيئاً من آماله العِراض التي تحطمت أمام ناظريه هناك.
ولأن لكرة القدم مفعول السحر، سحراً حلالاً بلا تمائم أو حُروز أو جوامع أو حُجب، كانت معركة السودانيين الأخرى. صحيح لا وجود لقتلى فيها، لكن هناك بلدا ينتصر وآخر يُهزم. فكانت "راية” صقور الجديان هي التي ترفرف في ملاعب ومطارات وعواصم العالم، و”رايات” خصومهم ترفرف في بلادهم فقط. فالمنتخب السوداني أحرز برونزية كرة القدم في دورة الألعاب العربية المقامة بالجزائر، وتأهل إلى بطولة أمم أفريقيا للاعبين المحليين "الشأن” وبطولة أفريقيا "الكان”، ومتصدراً لمجموعته في تصفيات كأس العالم 2026، حتى كتابة هذه الأسطر، إلى جانب إشراقات الهلال في مسابقة دوري أبطال أفريقيا، وكذلك أرقام بعثة السودان في أولمبياد باريس 2024 وغيرها من المشاركات في الألعاب الفردية والجماعية بالمسابقات الإقليمية الأخرى.
في بلد تمزقه الصراعات، حيث تظل كرة القدم واحدة من المساحات القليلة التي تجمع السودانيين تحت راية واحدة، حيث تختفي الانقسامات مؤقتاً عندما يهتف الجميع بصوت واحد
كل هذه النجاحات أتت في خِضم واحدة من أصعب الفترات في تاريخ السودان. نجحت الرياضة عموما وكرة القدم السودانية على وجه الخصوص، في تقديم رسالة أمل ووحدة للعالم أجمع. رغم الدمار والحرب والمعاناة الإنسانية التي ألمت بالبلاد، فقد ظّل اللاعبون السودانيون، في الداخل والخارج، أوفياء لرسالتهم، وهي أن الرياضة قادرة على جمع الشمل وتوحيد القلوب.
بعد شهور من النزوح، اختار لاعبو صقور الجديان أن يمنحوا حلماً جديداً. في بلد تمزقه الصراعات، حيث تظل كرة القدم واحدة من المساحات القليلة التي تجمع السودانيين تحت راية واحدة، حيث تختفي الانقسامات مؤقتاً عندما يهتف الجميع بصوت واحد خلف المنتخب. لقد كانت الملاعب السودانية شاهدة على كل تلك القصص التي لا تُنسى، حيث تحولت كرة القدم إلى أداة للتضامن، ليس فقط داخل السودان، بل أيضاً بين السودانيين المنتشرين حول العالم. كل مباراة، كل هدف، وكل إنجاز تحقق كان بمثابة شعلة أمل أضاءت ظلام الأزمات.
هناك كان استاد التاريخ الكبير، حيث لا تُلعب المباريات فقط على العشب الأخضر، بل في ساحات السياسة، وأزقة الحرب، وبين شعب يبحث عن الأمل. كنا نتابع كل مباراة ضد الحرب، ضد الانقسام، ضد الكراهية، وقد أنتصرت كرة القدم التي وحّدت الجميع بلا استثناء، فقد توقفت الحرب عندهم لحين لـ”90 دقيقة”، واتحد الشعب، ونسي المشردون والنازحون جراحهم للحظات، فأحياناً تخسر أمام السياسة، لكنها دائماً تعود للمباراة.
صحيح أن كرة القدم لعبة، والحرب أيضا لعبة، لكن الفرق بين اللعبتين أن الأولى يُضاف إليها وقت بدل ضائع، والثانية لا تلعب إلا في بلد ضائع، لذلك يأمل كل سوداني على وجه هذه البسيطة أن لا يخسر هنا وهناك، فهل نراها قريباً تسجل هدفاً جديداً للسلام في السودان؟ وهل يمكن أن تصبح الكرة جسراً نحو وحدة أعمق وسلام دائم؟ وفي الأذهان ديدييه دروغبا يتقدم، ليس نحو المرمى، بل نحو الكاميرا بعد تأهل ساحل العاج لكأس العالم 2006. يركع أمام الجماهير ويوجه نداءً مؤثراً لمتحاربين: "أوقفوا الحرب!”. والمفاجأة؟ الكرة تُسجل هدفاً ذهبياً، فقد بدأ السلام بعد خطابه!!