✦ بين الاستثناء والقاعدة: الأندية التي تخطت حاجز 50+1 ✦
---------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------
بعد أن ناقشنا في الموضوع السابق تأثير قاعدة 50+1 على هوية الأندية الألمانية ومحدودية قدرتها المالية مقارنةً بأندية الدوريات الكبرى، من المهم أن نسلط الضوء على الحالات التي تمكنت من تجاوز هذه القاعدة.
رغم أن النظام يمنع المستثمرين من امتلاك الأندية بشكل كامل، إلا أن بعض الأندية حصلت على استثناءات قانونية مكّنتها من الخروج عن القاعدة، وهو ما يفتح باب التساؤل: لماذا لم نشهد تحوّل هذه الأندية إلى قوى مالية كبرى كما حدث مع مانشستر سيتي وباريس سان جيرمان؟
══════════════════════════════════════
❖ الاستثناءات: كيف ولماذا؟ ❖
تمنح القاعدة استثناءً للمستثمرين الذين يدعمون النادي ماليًا لأكثر من 20 عامًا، وهو ما استفادت منه أندية مثل باير ليفركوزن وفولفسبورغ، حيث استمرت ملكيتها في يد الشركات الأم (باير وفولكسفاغن) دون قيود، مما منحها القدرة على الإنفاق بحرية أكبر مقارنة ببقية الأندية الألمانية.
أما في حالة هوفنهايم، فقد استفاد النادي من الاستثناء نفسه بفضل ديتمار هوب، رجل الأعمال الألماني وأحد مؤسسي شركة البرمجيات العملاقة SAP، الذي يُعرف بكونه المستثمر الرئيسي في النادي.
بدأت علاقته بهوفنهايم منذ طفولته، حيث نشأ في المنطقة وكان مشجعًا له منذ الصغر. ومع بداية الألفية، قرر دعمه ماليًا وتحويله من فريق مغمور في الدرجات الدنيا إلى نادٍ منافس في البوندسليغا.
استثمر هوب مبالغ ضخمة في البنية التحتية، بما في ذلك بناء أكاديمية حديثة وملعب بري زيرو أرينا، وساهم بشكل مباشر في صعود النادي من الدرجات الدنيا حتى وصوله إلى الدوري الألماني الممتاز في عام 2008.
وبفضل دعمه المستمر لأكثر من 20 عامًا، حصل على استثناء من قاعدة 50+1، ما سمح له بامتلاك أغلبية أسهم النادي، ليصبح واحدًا من الحالات القليلة التي تجاوزت هذه القاعدة في ألمانيا.
ورغم نجاح المشروع، يواجه هوب انتقادات مستمرة من الجماهير الألمانية، التي ترى أن استثماره يتعارض مع القيم التقليدية للدوري، مما جعله عرضة لهتافات معادية من مشجعي الفرق الأخرى، خاصة تلك التي ترفض تدخل المستثمرين في كرة القدم الألمانية.
لكن تبقى حالة لايبزيغ مختلفة تمامًا عن بقية الأندية، حيث لم يكن هناك استثمار طويل الأمد، بل استغلت شركة ريد بول ثغرات قانونية بطريقة لم تحدث من قبل في تاريخ الكرة الألمانية، عبر تأسيس نادٍ جديد تمامًا تحت اسمها، وجعلت العضوية فيه حكرًا على موظفيها فقط لضمان سيطرتها الكاملة.
هذا النهج لم يكن مجرد محاولة للاستثمار في نادٍ موجود مسبقًا كما فعلت فولكسفاغن أو باير، بل كان مشروعًا شاملاً لبناء علامة تجارية كروية عالمية، وهو ما يفسر نجاح لايبزيغ في التحول إلى قوة تنافسية سريعة على الصعيد المحلي والأوروبي.
❖ حالة لايبزيغ: هل هي استثناء فعلي أم بداية تغيير جذري؟ ❖
يمكن القول إن لايبزيغ يمثل نموذجًا هجوميًا ضد قاعدة 50+1، حيث استطاعت ريد بول الالتفاف عليها دون الحاجة إلى استثمار طويل الأمد كما تتطلب القاعدة في الأصل.
بدأ المشروع عندما قامت ريد بول بشراء رخصة نادٍ صغير يُدعى SSV Markranstädt في الدرجة الخامسة عام 2009، بدلاً من الاستثمار في أحد الأندية القائمة التي تطبق قاعدة 50+1.
وبدلاً من فتح باب العضوية لجماهير النادي كما هو الحال في الأندية الألمانية التقليدية، صُممت عضوية النادي بحيث تكون محصورة على عدد محدود جدًا من الأفراد، معظمهم موظفون لدى شركة ريد بول.
وفقًا للوائح الكرة الألمانية، يجب أن يكون للأندية المحترفة هيئات عضوية تتحكم في اتخاذ القرارات، لكن لايبزيغ أبقى عدد الأعضاء عند حد أدنى لا يتجاوز العشرين شخصًا، مقارنةً بأندية مثل بايرن ميونيخ، التي تضم أكثر من 400,000 عضو.
الأهم من ذلك، أن رسوم العضوية في لايبزيغ كانت مرتفعة للغاية مقارنة بالأندية الألمانية الأخرى، مما صعّب على أي شخص خارج الدائرة الضيقة للشركة الحصول على حق التصويت داخل النادي.
هذا الأسلوب منح ريد بول سيطرة مطلقة على قرارات النادي، مما يتعارض مع الفكرة الأساسية لقاعدة 50+1، التي تهدف إلى إبقاء السلطة بيد الجماهير.
لم يكن الهدف مجرد تمويل نادٍ قائم كما فعلت فولكسفاغن مع فولفسبورغ، بل إعادة تشكيل النادي بالكامل ليكون جزءًا من العلامة التجارية للشركة، وهو ما أثار استياء الكثيرين في ألمانيا، حيث اعتبر البعض أن لايبزيغ لا يمثل القيم التقليدية للدوري الألماني.
ورغم الجدل الكبير حول هذه القضية، لم تستطع رابطة الدوري الألماني منع هذا النموذج، لأن لايبزيغ التزم بالقوانين شكلًا، لكنه خالف روح القاعدة من خلال التحكم المطلق في الهيكلة الإدارية.
ورغم نجاحه السريع ووصوله إلى دوري أبطال أوروبا، يبقى لايبزيغ النادي الأكثر جدلًا في ألمانيا بسبب أسلوب تأسيسه وابتعاده عن القيم التقليدية التي تحكم كرة القدم الألمانية.
ومع ذلك، لم يصبح مشروعًا ماليًا مفتوحًا بلا قيود على غرار مانشستر سيتي أو باريس سان جيرمان، لعدة أسباب:
1/- الرقابة التنظيمية الألمانية:
على الرغم من أن لايبزيغ خرج عن الإطار التقليدي للأندية الألمانية، إلا أنه لا يزال خاضعًا لقيود مالية صارمة تمنعه من الإنفاق المفرط على الصفقات أو الرواتب بشكل لا يتناسب مع عائداته، وهو ما يميز البوندسليغا عن البريميرليغ والدوري الفرنسي.
2/- التركيز على نموذج التطوير بدلًا من الإنفاق المباشر:
ريد بول لم تبنِ لايبزيغ ليكون ناديًا قائمًا على شراء النجوم بمبالغ طائلة، بل تبنت نموذجًا اقتصاديًا ذكيًا قائمًا على اكتشاف المواهب الشابة، تطويرها، ثم بيعها بأسعار مرتفعة. هذا النموذج سمح للنادي بالحفاظ على استقراره المالي دون الحاجة إلى دعم استثماري ضخم كما هو الحال مع الأندية المملوكة لدول.
3/- المقاومة الجماهيرية والثقافية:
رغم أن لايبزيغ أصبح مشروعًا ناجحًا رياضيًا، إلا أن المجتمع الكروي الألماني لا يزال ينظر إليه بعين الريبة، حيث يعتبره الكثيرون كيانًا تجاريًا دخيلًا على البوندسليغا، وليس ناديًا قائمًا على القيم التقليدية للكرة الألمانية. هذه النظرة قد تكون أحد الأسباب التي دفعت النادي لاتباع نهج مالي أكثر حذرًا، حتى لا يثير المزيد من الجدل والانتقادات.
❖ لماذا لم تصبح هذه الأندية مشاريع إنفاق ضخم؟ ❖
رغم امتلاك هذه الأندية حرية مالية أكبر مقارنةً بالبقية، إلا أن واقعها مختلف تمامًا عن أندية البريميرليغ أو الدوري الفرنسي للأسباب التالية:
1/- الرقابة المالية الصارمة:
ميزان الإيرادات والمصروفات بعكس الدوريات الأخرى الأقل نزاهة في هذا الموضوع
حتى مع تجاوز بعض الأندية لقاعدة 50+1، فإنها تظل خاضعة لقيود مالية صارمة من قبل رابطة الدوري الألماني (DFL) والجهات المنظمة لكرة القدم الأوروبية.
هذه القيود تمنع حدوث سيناريوهات مماثلة لما يحدث في الدوري الإنجليزي أو الفرنسي، حيث يمكن للملاك الأثرياء ضخ أموال ضخمة في النادي دون قيود واضحة.
- نظام التراخيص المالية في ألمانيا:
كل نادٍ مشارك في البوندسليغا ملزم بالحصول على رخصة مالية سنوية، والتي تتطلب إثبات قدرة النادي على تغطية نفقاته من خلال إيراداته الفعلية، وليس من خلال ضخ الأموال من المستثمرين.
بمعنى آخر، لا يمكن لنادٍ مثل هوفنهايم أو باير ليفركوزن أن ينفق مئات الملايين على الانتقالات والرواتب دون أن يكون لديه دخل حقيقي يغطي هذه المصاريف.
- قيود الاتحاد الأوروبي لكرة القدم (UEFA):
إضافة إلى ذلك، تخضع الأندية الألمانية لنظام الاستدامة المالية الذي حل محل قانون اللعب المالي النظيف، والذي يهدف إلى ضبط إنفاق الأندية بحيث يكون مرتبطًا بإيراداتها الفعلية.
هذا يجعل من المستحيل أن يتحول نادٍ مثل فولفسبورغ إلى قوة إنفاقية على غرار باريس سان جيرمان، لأن القانون يفرض سقفًا للإنفاق بناءً على الدخل الحقيقي وليس على الاستثمارات الخارجية.
- مقارنة مع الدوريات الأخرى:
في الدوري الإنجليزي، رغم وجود قواعد مالية، إلا أن بعض الأندية تجد طرقًا للتحايل عليها، كما هو الحال مع مانشستر سيتي وتشيلسي اللذين استفادا من عقود رعاية ضخمة من شركات مرتبطة بالملاك.
في الدوري الفرنسي، حصل باريس سان جيرمان على دعم مالي غير محدود من ملاكه القطريين، مع تجاوزات واضحة للقوانين المالية دون عقوبات مؤثرة.
في إسبانيا وإيطاليا، رغم تطبيق قواعد مالية، إلا أن أندية مثل برشلونة ويوفنتوس تمكنت من التلاعب في حساباتها المالية لتسجيل صفقات كبرى.
- الشفافية والنزاهة في البوندسليغا:
على عكس هذه الدوريات، تتمتع ألمانيا بقدر أكبر من النزاهة في تطبيق القوانين المالية، حيث لا توجد استثناءات أو تساهل مع الأندية التي تخالف القواعد.
وهذا ما يجعل حتى الأندية المستثناة من قاعدة 50+1 غير قادرة على إنفاق غير محدود.
2/- النهج الإداري المحافظ:
الشركات المالكة مثل فولكسفاغن وباير تتعامل مع الأندية كجزء من استراتيجيتها التسويقية، وليس كأدوات لتحقيق البطولات بأي ثمن، مما يحدّ من الإنفاق المفرط.
3/- الضغط الجماهيري والتقاليد الكروية:
في ألمانيا، العلاقة بين المشجعين والنادي ليست قائمة على المال فقط، بل هناك بُعد ثقافي قوي يمنع أي مستثمر من تغيير هوية الأندية أو إدارتها بأسلوب مشابه لما يحدث في إنجلترا وفرنسا.
4/- الفارق في حقوق البث والإيرادات:
البوندسليغا لا تمتلك عقود بث ضخمة مثل البريميرليغ، مما يجعل حتى الأندية ذات الاستثناءات تواجه صعوبة في التنافس ماليًا مع كبار أوروبا، حيث تعتمد الأندية الألمانية بشكل أكبر على التطوير والبيع بدلًا من ضخ الأموال في الصفقات الكبيرة.
❖ هل يمكن أن تتغير الأمور؟ ❖
تبقى النقطة الجوهرية هنا: هل يمكن أن تتجه الكرة الألمانية مستقبلًا نحو نموذج الاستثمار المفتوح؟
حتى الآن، لا تزال القاعدة صامدة رغم الانتقادات، لكن مع تزايد الضغوط المالية والتفاوت الكبير مع الدوريات الأخرى، قد يصبح من الضروري إعادة النظر في التوازن بين جذب الاستثمارات والحفاظ على هوية الأندية.
مع ذلك، تظل ألمانيا متماسكة في موقفها، حيث لم تظهر أي مؤشرات قوية على استعداد الاتحاد الألماني للتخلي عن قاعدة 50+1 بالكامل، مما يعني أن نموذج لايبزيغ قد يكون استثناءً وليس بداية لقاعدة جديدة.
لكن إذا استمرت الأندية الألمانية في مواجهة صعوبات مالية مقارنةً بالمنافسين الأوروبيين، فقد نشهد نقاشًا مستقبليًا أكثر جدية حول إمكانية تعديل القاعدة أو إيجاد حلول وسط تضمن جذب الاستثمارات دون فقدان هوية الأندية.
══════════════════════════════════════
✦ السؤال المطروح: ✦
هل يمكن أن نرى في المستقبل أندية ألمانية بمستوى مالي مماثل لمانشستر سيتي أو باريس سان جيرمان؟
أم أن الثقافة الكروية الألمانية ستظل حاجزًا أمام هذا التحول؟
بانتظار آرائكم في هذا النقاش الشيق!