عقل ضائع في صخب الإعلام
هل يمكن اعتبار المشهد الإعلامي الحالي، بعد خسارة خمسة نقاط من اصل ستة في الدور الرابع قبل الاخير من التصفيات النهائية المؤهلة لكأس العالم، بكل ما يحمله من صخب وتناقضات، مرآة تعكس أزمة أعمق في فهمنا للعقلانية والبيئة الطبيعية؟ إن هذا السؤال يلامس جوهر العلاقة المعقدة بين الفضاء العام الرقمي وقدرتنا على التفكير النقدي. فهل هذا السيل المتدفق من المعلومات المتضاربة، والذي يتراوح بين التهديدات الشخصية والادعاءات غير المنطقية، ليس إلا تجليًا لصدع بنيوي في أسس العقلانية التي لطالما اعتبرناها حجر الزاوية في بناء مجتمعات مستنيرة؟ ألا يشير هذا التآكل التدريجي لقدرتنا على التفكير السليم واتخاذ القرارات الرشيدة إلى تحول بنيوي في طبيعة الإدراك والمعرفة في عصرنا؟
ألا يثير هذا التناقض الصارخ بين الفوضى الإعلامية المحلية والتحليل الهادئ والبنّاء في بيئات أخرى، تساؤلات حول طبيعة "البيئة" التي نشكلها لأنفسنا؟ هنا، يتجاوز مفهوم "البيئة" دلالته الطبيعية ليحتضن الفضاء الاجتماعي والثقافي الذي نعيش فيه. فهل هذه البيئة الإعلامية الصاخبة، التي تغذيها الخلافات والاتهامات، هي بيئة حاضنة للنمو الفكري والإبداع، أم أنها تحولت إلى مستنقع يعيق أي محاولة جادة للتقدم والازدهار؟ إن المقارنة مع بيئات أخرى تتمتع بقدر أكبر من الرصانة والتحليل المتعمق تدفعنا للتساؤل بعمق حول طبيعة "البيئة المعرفية" التي نصنعها لأنفسنا، ومدى تأثيرها على مسارات تطورنا.
في ظل هذا الضجيج المستمر، كيف يمكن للعقل أن يركز على مهمة محددة، مثل بناء فريق كروي قادر على المنافسة؟ إن هذا السؤال يضعنا أمام معضلة التركيز والإنجاز في عصر يتميز بتشتت الانتباه. ففي هذه البيئة المشبعة بالضوضاء الإعلامية، ألا يصبح التركيز على هدف طويل الأمد، مثل بناء فريق كروي متكامل، ضربًا من ضروب العبث أو حتى ضربًا من ضروب المقاومة الواعية؟ هل يمكن للعقل أن ينتج ويبدع في محيط يحتفي بالسطحية والإثارة اللحظية، أم أن هذا الضجيج يشكل عائقًا بنيويًا أمام أي جهد يتطلب عمقًا وتأنيًا؟
ألا يستدعي هذا الوضع إعادة تقييم جذرية لدور الإعلام في مجتمعاتنا؟ هنا، نصل إلى لب القضية. فهل الإعلام، الذي كان يُنظر إليه يومًا كأداة للتنوير والتوعية، قد تحول بالفعل إلى قوة تعمل على تشتيت الانتباه وتغذية التعصب والانقسام؟ ألا يستدعي هذا التحول إعادة تفكير عميقة في مسؤولية الإعلام وأخلاقياته في تشكيل الوعي العام؟ وعليه، هل يمكننا، في ظل هذه الظروف، أن نتوقع أي نهضة حقيقية، سواء كانت رياضية كروية أو غيرها، دون معالجة هذه الإشكالية الجذرية في بنية الفضاء الإعلامي وتأثيره على قدرتنا على التفكير والتخطيط للمستقبل؟
ختامًا، إن هذه التساؤلات ليست مجرد استفسارات عابرة، بل هي دعوة للتأمل العميق في طبيعة العقلانية، وتأثير البيئة الإعلامية على قدرتنا على التفكير والإنجاز، ودور الإعلام في بناء مجتمعات قادرة على التقدم والازدهار. إن الإجابة على هذه التحديات تتطلب وعيًا جمعيًا وجهدًا متضافرًا لإعادة تشكيل علاقتنا بالمعلومات وببعضنا البعض في هذا العصر الرقمي المتسارع.